العقيدة السياسية السعودية- ثوابت في عالم متغير
المؤلف: محمد الساعد08.28.2025

في خضم التقلبات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، لاسيما في العقدين الأخيرين، يتبادر إلى الأذهان تساؤل جوهري: هل طرأ تحول على طبيعة السعوديين؟ وهل تغيرت سلم أولوياتهم؟ والواقع يشير إلى أن جوهر السعوديين لم يتبدل، بل المتغير هو السياسات الدولية، وتبدل موازين القوى، وتفاقم المخاطر. فالسعوديون، بما أنهم أبناء هذه الأرض، أرض الجزيرة العربية، الذين نشأوا وترعرعوا في صحاريها الشاسعة، وجبالها الشامخة، وسهولها الممتدة، استقوا من طبيعتها القاسية واقعية فريدة في التعاطي مع شتى الأخطار والتحديات والمفاجآت. لذا، فهم يتميزون عن غيرهم في المنطقة بقدرتهم الفائقة على استيعاب المتغيرات والتكيف معها، بل واستباق الأحداث بخطوات حاسمة، وإلا لما استطاعوا الصمود والبقاء في تلك الظروف الجغرافية والمناخية القاسية.
على مر المئة عام الماضية، شكلت المملكة العربية السعودية، في طور دولتها الثالثة، "عقيدة سياسية" راسخة وثابتة، تحطمت على أسوارها جميع المحاولات اليائسة لزعزعتها أو تغيير مسارها، سواء عبر المكائد والدسائس أو حتى عن طريق الحروب المباشرة.
لقد وضع الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود -طيب الله ثراه- أساسًا متينًا لتلك العقيدة السياسية، والتي تجلت باكورتها في الحياد التام الذي التزم به في غمرة أتون أهم صراع شهده تاريخ البشرية، ألا وهي الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت عينه، كان الملك عبد العزيز، الذي نذر نفسه لاستعادة ملك أجداده، يتحالف عمليًا ويتقارب مع قوى خارجية كانت تناهض الاستبداد العسكري. لذلك، لم يكن غريبًا أن يكون الملك المؤسس أول قائد وزعيم يلتقي بالمنتصرين في الحرب –روزفلت وتشرشل– لكون المملكة الفتية، بقيادة ملكها العظيم، استطاعت أن تضع حجر الأساس لدور محوري ومستقبلي في قيادة العالم، وهو الدور الذي ما زالت تضطلع به حتى يومنا هذا.
دعونا نوجز أبرز معالم هذه العقيدة السياسية في تعريفها العلمي، وهي:
"مجموعة المبادئ والتوجهات الجوهرية التي توجه سلوك الدولة في المجالين الداخلي والخارجي، وتشكل الإطار الفكري لصانع القرار في تفسير التهديدات، وتحديد الأولويات، وبناء التحالفات، ورسم السياسات الاستراتيجية على المدى الطويل".
ويمكننا هنا أن نلخص أبرز ملامح العقيدة السياسية السعودية التي أرسى دعائمها الملك المؤسس عبد العزيز، وسار على نهجها أبناؤه الملوك من بعده حتى هذا العصر، مع التأكيد على أن كل ملك قد تولى إدارة شؤون الدولة بما تقتضيه الظروف والمستجدات، ولكن ضمن الإطار السياسي السعودي الثابت وغير القابل للتغيير.
أولًا: السيادة الكاملة:
دأب السعوديون، في كل مناسبة ومحفل، على التأكيد القاطع على استقلالية القرار السعودي، دون الخضوع لأي محاور دولية أو تنظيمات عابرة للحدود، مهما بلغت الضغوط أو تفاقمت المخاطر. لقد أثبت السعوديون، على مدار قرن كامل، أنهم يتمتعون بحيادية فائقة ومهارة نادرة.
ثانيًا: البراغماتية الواقعية:
تغليب المصالح الوطنية والاقتصادية على الاعتبارات الأيديولوجية أو التحالفات التقليدية، مهما كانت الضغوط الشعبوية أو الخارجية، أو محاولات الاستنزاف التي تمارسها القوى الإقليمية أو تلك التي من خارج المنطقة. ثمة شواهد كثيرة على ذلك؛ فالسعوديون لم ينجرفوا يومًا وراء الخطابات الثورية، ولا الأفكار اليسارية والاشتراكية، ولا حتى الليبرالية المنحرفة.
ثالثًا: التحول التنموي:
كانت وما زالت السياسة الخارجية والداخلية موجهة لخدمة التنمية والتعليم وتطوير المجتمع المحلي كهدف استراتيجي شامل، وهو الأمر الذي أثمر عن نشأة دولة عصرية ومتعلمة استطاعت أن تختصر الزمن وتتجاوز الصعاب. فمن يتذكر مدرسة البعثات التي تأسست في عهد الملك عبد العزيز، لا بد له أن يربطها ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث.
رابعًا: تنويع الشراكات الدولية:
عملت الرياض جاهدة على توثيق علاقاتها مع القوى الكبرى الموجودة أو الصاعدة (كالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا)، وعدم الاعتماد على طرف واحد فقط.
خامسًا: ترسيخ القيادة العربية والإسلامية:
باعتبار أن السعودية هي مهد العروبة، ومن ربوعها انطلقت اللغة العربية، وفيها مهبط الوحي، ومنها انطلق أجداد السعوديين من الصحابة والتابعين، فقد سخّرت المملكة العربية السعودية، بقيادة ملوكها وأجهزتها، كل إمكاناتها وطاقاتها لخدمة الحرمين الشريفين، وتطوير المشاعر المقدسة وتأهيلها لاستقبال مئات الملايين من الحجاج والمعتمرين والزائرين. كل ذلك جعل من السعودية قائدة للعالم الإسلامي المعتدل، ورسّخ الإسلام كقوة مؤثرة وفاعلة في العالم.
أما فيما يتعلق بالعالم العربي، فقد كانت المملكة ولا تزال الأكثر حرصًا على صون الأمن العربي ومنع أي تدخل أجنبي في شؤونه من قبل قوى إقليمية أو دولية، وظلت ترفع شعارًا طبقته بحذافيره: "شؤون العرب للعرب"، ولهذا السبب تحديدًا سقطت على أسوارها العديد من المشاريع العابرة التي كانت تهدف إلى تفتيت الوحدة العربية.
سادسًا: محاربة الإرهاب واستخدام العقائد والأديان لتبرير العنف:
لقد كان السعوديون ولا يزالون في طليعة صفوف محاربي الإرهاب، ورفض التنظيمات الدينية التي تستغل السياسة والدين لتبرير القتل والعنف. ولا تزال المملكة من أكثر الدول مساهمة في الحرب على الإرهاب والقضاء على منابعه وتجفيف مصادر تمويله.
سابعًا: تثبيت الهوية الوطنية:
بذل السعوديون جهودًا دؤوبة وواضحة للتركيز المطلق على الهوية السعودية الجامعة، بدلًا من أي هوية عرقية أو إقليمية أو أيديولوجية تفرق ولا تجمع، والارتقاء بهويتهم السعودية لتكون مرجعية عليا حصرية ومانعة.
ثامنًا: بناء قوة إقليمية رادعة:
كلما ذكر التسليح السعودي، فلا بد من التذكير بطائرات الأواكس، ومقاتلات الـ F15، وصواريخ رياح الشرق، ومنظومات صواريخ الباتريوت التي وصلت إلى السعودية على مدى سنوات من الجهد العسكري المضني، وصولًا إلى ما قبل أيام قليلة حينما بدأ تركيب منظومات صواريخ "ثاد" الأكثر تطورًا في عالم الدفاع الجوي. لم يكن الهدف من ذلك إلا بناء منظومة عسكرية وتكنولوجية متكاملة وممتدة تفرض معادلة الردع السعودي في إقليم يعج بالاضطرابات والحروب والإخفاقات.
تاسعًا: تحييد القوى الإقليمية المحاربة للسعودية دون مواجهة مباشرة:
لم تكن السعودية يومًا في حاجة إلى الدخول في مواجهات مباشرة مع أحد، فالحكمة السياسية هي ضالتها التي طالما تبنتها والتزمت بها في علاقاتها مع دول الإقليم أو خارجه، وذلك من خلال استخدام أدوات متنوعة (كالحوار البناء، والتحالفات الاستراتيجية، والاقتصاد المتين، وأخيرًا الردع غير المباشر) لاحتواء أي تهديد محتمل.
عاشرًا: أولوية الاستقرار الداخلي:
أدرك السعوديون باكرًا أن التنمية الشاملة هي أساس الاستقرار، وأن احتكار السلطة والمال والمعرفة هو مفسدة عظيمة. ولذلك، عملوا بجد واجتهاد على إشراك جميع المواطنين في التنمية من خلال توزيع الثروة عبر الصناديق والمنح والوظائف، وتمكين القطاع الخاص، ونشر العلم والمعرفة على نطاق واسع، حتى تم القضاء على الأمية تمامًا.
ومنذ أن أرسل الملك المؤسس عبد العزيز ابنه الملك فيصل إلى موسكو في بدايات العهد السعودي، وابنه الملك سعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومستشاريه الآخرين ليجوبوا عواصم العالم المتقدم –في ذلك الوقت– بحثًا عن التكنولوجيا المتطورة أو المشاريع التنموية التي تعمر الإنسان والأرض وتجلب المياه، كانت الدولة السعودية، ممثلة في ملوكها، تدرك تمام الإدراك أن التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية في الداخل تمثل أولوية قصوى، بدلًا من التورط في مغامرات خارجية لا طائل منها، وهو الأمر الذي استنزف دولًا أخرى سعت إلى نشر أفكارها أو عقائدها على حساب شعوبها.
وهنا يبرز سؤال هام: هل تغيرت العقيدة السياسية السعودية خلال العقدين الأخيرين؟
عقدان يعتبرهما الكثيرون الأعنف والأكثر اضطرابًا اللذين مرا على منطقة الشرق الأوسط منذ قرن، وذلك على إثر ما يسمى بالربيع العربي، وتفجر الأوضاع في دول مثل ليبيا وتونس والسودان وسوريا ولبنان، والحروب المتعددة والمتشابكة ما بين العصابات الإرهابية وبين الحكومات الشرعية!
الإجابة هنا يمكن أن تكون أقرب إلى المقاربة منها إلى الجواب القاطع؛ فالسعوديون –عادةً– واقعيون وعمليون، وإذا ما وجدوا أن ثمة ضرورة للتغيير، فإنهم لا يمانعون في ذلك، ولكن بشكل تدريجي ومدروس، بحيث لا يمس القيم الأساسية والثوابت (مثل العقيدة، والسيادة، والاستقلال)، بل يقتصر على أدوات التنفيذ، وأولويات التحالف، ونطاق الدور الإقليمي.
إن السعوديين لم يتخلوا قط عن جذور عقيدتهم السياسية التقليدية، النابعة من أصالة بداوتهم، ونقاء إسلامهم، وصفاء عروبتهم، لكنهم أعادوا صياغتها وتطويرها بما يتناسب مع مكانة دولة تسعى إلى الريادة والقيادة في عالم لا بقاء فيه إلا للأقوى اقتصاديًا وحضاريًا وتكنولوجيًا. ومن هذا المنطلق، جاءت "رؤية 2030" التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لتشكل، جنبًا إلى جنب مع العقيدة السياسية السعودية، أداة تنفيذ متطورة لها، وليكون التطور والتقدم في الوسائل والأولويات والخطاب والنظرة إلى الذات السعودية والآخرين، وليس على حساب الجوهر والثوابت.
على مر المئة عام الماضية، شكلت المملكة العربية السعودية، في طور دولتها الثالثة، "عقيدة سياسية" راسخة وثابتة، تحطمت على أسوارها جميع المحاولات اليائسة لزعزعتها أو تغيير مسارها، سواء عبر المكائد والدسائس أو حتى عن طريق الحروب المباشرة.
لقد وضع الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود -طيب الله ثراه- أساسًا متينًا لتلك العقيدة السياسية، والتي تجلت باكورتها في الحياد التام الذي التزم به في غمرة أتون أهم صراع شهده تاريخ البشرية، ألا وهي الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت عينه، كان الملك عبد العزيز، الذي نذر نفسه لاستعادة ملك أجداده، يتحالف عمليًا ويتقارب مع قوى خارجية كانت تناهض الاستبداد العسكري. لذلك، لم يكن غريبًا أن يكون الملك المؤسس أول قائد وزعيم يلتقي بالمنتصرين في الحرب –روزفلت وتشرشل– لكون المملكة الفتية، بقيادة ملكها العظيم، استطاعت أن تضع حجر الأساس لدور محوري ومستقبلي في قيادة العالم، وهو الدور الذي ما زالت تضطلع به حتى يومنا هذا.
دعونا نوجز أبرز معالم هذه العقيدة السياسية في تعريفها العلمي، وهي:
"مجموعة المبادئ والتوجهات الجوهرية التي توجه سلوك الدولة في المجالين الداخلي والخارجي، وتشكل الإطار الفكري لصانع القرار في تفسير التهديدات، وتحديد الأولويات، وبناء التحالفات، ورسم السياسات الاستراتيجية على المدى الطويل".
ويمكننا هنا أن نلخص أبرز ملامح العقيدة السياسية السعودية التي أرسى دعائمها الملك المؤسس عبد العزيز، وسار على نهجها أبناؤه الملوك من بعده حتى هذا العصر، مع التأكيد على أن كل ملك قد تولى إدارة شؤون الدولة بما تقتضيه الظروف والمستجدات، ولكن ضمن الإطار السياسي السعودي الثابت وغير القابل للتغيير.
أولًا: السيادة الكاملة:
دأب السعوديون، في كل مناسبة ومحفل، على التأكيد القاطع على استقلالية القرار السعودي، دون الخضوع لأي محاور دولية أو تنظيمات عابرة للحدود، مهما بلغت الضغوط أو تفاقمت المخاطر. لقد أثبت السعوديون، على مدار قرن كامل، أنهم يتمتعون بحيادية فائقة ومهارة نادرة.
ثانيًا: البراغماتية الواقعية:
تغليب المصالح الوطنية والاقتصادية على الاعتبارات الأيديولوجية أو التحالفات التقليدية، مهما كانت الضغوط الشعبوية أو الخارجية، أو محاولات الاستنزاف التي تمارسها القوى الإقليمية أو تلك التي من خارج المنطقة. ثمة شواهد كثيرة على ذلك؛ فالسعوديون لم ينجرفوا يومًا وراء الخطابات الثورية، ولا الأفكار اليسارية والاشتراكية، ولا حتى الليبرالية المنحرفة.
ثالثًا: التحول التنموي:
كانت وما زالت السياسة الخارجية والداخلية موجهة لخدمة التنمية والتعليم وتطوير المجتمع المحلي كهدف استراتيجي شامل، وهو الأمر الذي أثمر عن نشأة دولة عصرية ومتعلمة استطاعت أن تختصر الزمن وتتجاوز الصعاب. فمن يتذكر مدرسة البعثات التي تأسست في عهد الملك عبد العزيز، لا بد له أن يربطها ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث.
رابعًا: تنويع الشراكات الدولية:
عملت الرياض جاهدة على توثيق علاقاتها مع القوى الكبرى الموجودة أو الصاعدة (كالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا)، وعدم الاعتماد على طرف واحد فقط.
خامسًا: ترسيخ القيادة العربية والإسلامية:
باعتبار أن السعودية هي مهد العروبة، ومن ربوعها انطلقت اللغة العربية، وفيها مهبط الوحي، ومنها انطلق أجداد السعوديين من الصحابة والتابعين، فقد سخّرت المملكة العربية السعودية، بقيادة ملوكها وأجهزتها، كل إمكاناتها وطاقاتها لخدمة الحرمين الشريفين، وتطوير المشاعر المقدسة وتأهيلها لاستقبال مئات الملايين من الحجاج والمعتمرين والزائرين. كل ذلك جعل من السعودية قائدة للعالم الإسلامي المعتدل، ورسّخ الإسلام كقوة مؤثرة وفاعلة في العالم.
أما فيما يتعلق بالعالم العربي، فقد كانت المملكة ولا تزال الأكثر حرصًا على صون الأمن العربي ومنع أي تدخل أجنبي في شؤونه من قبل قوى إقليمية أو دولية، وظلت ترفع شعارًا طبقته بحذافيره: "شؤون العرب للعرب"، ولهذا السبب تحديدًا سقطت على أسوارها العديد من المشاريع العابرة التي كانت تهدف إلى تفتيت الوحدة العربية.
سادسًا: محاربة الإرهاب واستخدام العقائد والأديان لتبرير العنف:
لقد كان السعوديون ولا يزالون في طليعة صفوف محاربي الإرهاب، ورفض التنظيمات الدينية التي تستغل السياسة والدين لتبرير القتل والعنف. ولا تزال المملكة من أكثر الدول مساهمة في الحرب على الإرهاب والقضاء على منابعه وتجفيف مصادر تمويله.
سابعًا: تثبيت الهوية الوطنية:
بذل السعوديون جهودًا دؤوبة وواضحة للتركيز المطلق على الهوية السعودية الجامعة، بدلًا من أي هوية عرقية أو إقليمية أو أيديولوجية تفرق ولا تجمع، والارتقاء بهويتهم السعودية لتكون مرجعية عليا حصرية ومانعة.
ثامنًا: بناء قوة إقليمية رادعة:
كلما ذكر التسليح السعودي، فلا بد من التذكير بطائرات الأواكس، ومقاتلات الـ F15، وصواريخ رياح الشرق، ومنظومات صواريخ الباتريوت التي وصلت إلى السعودية على مدى سنوات من الجهد العسكري المضني، وصولًا إلى ما قبل أيام قليلة حينما بدأ تركيب منظومات صواريخ "ثاد" الأكثر تطورًا في عالم الدفاع الجوي. لم يكن الهدف من ذلك إلا بناء منظومة عسكرية وتكنولوجية متكاملة وممتدة تفرض معادلة الردع السعودي في إقليم يعج بالاضطرابات والحروب والإخفاقات.
تاسعًا: تحييد القوى الإقليمية المحاربة للسعودية دون مواجهة مباشرة:
لم تكن السعودية يومًا في حاجة إلى الدخول في مواجهات مباشرة مع أحد، فالحكمة السياسية هي ضالتها التي طالما تبنتها والتزمت بها في علاقاتها مع دول الإقليم أو خارجه، وذلك من خلال استخدام أدوات متنوعة (كالحوار البناء، والتحالفات الاستراتيجية، والاقتصاد المتين، وأخيرًا الردع غير المباشر) لاحتواء أي تهديد محتمل.
عاشرًا: أولوية الاستقرار الداخلي:
أدرك السعوديون باكرًا أن التنمية الشاملة هي أساس الاستقرار، وأن احتكار السلطة والمال والمعرفة هو مفسدة عظيمة. ولذلك، عملوا بجد واجتهاد على إشراك جميع المواطنين في التنمية من خلال توزيع الثروة عبر الصناديق والمنح والوظائف، وتمكين القطاع الخاص، ونشر العلم والمعرفة على نطاق واسع، حتى تم القضاء على الأمية تمامًا.
ومنذ أن أرسل الملك المؤسس عبد العزيز ابنه الملك فيصل إلى موسكو في بدايات العهد السعودي، وابنه الملك سعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومستشاريه الآخرين ليجوبوا عواصم العالم المتقدم –في ذلك الوقت– بحثًا عن التكنولوجيا المتطورة أو المشاريع التنموية التي تعمر الإنسان والأرض وتجلب المياه، كانت الدولة السعودية، ممثلة في ملوكها، تدرك تمام الإدراك أن التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية في الداخل تمثل أولوية قصوى، بدلًا من التورط في مغامرات خارجية لا طائل منها، وهو الأمر الذي استنزف دولًا أخرى سعت إلى نشر أفكارها أو عقائدها على حساب شعوبها.
وهنا يبرز سؤال هام: هل تغيرت العقيدة السياسية السعودية خلال العقدين الأخيرين؟
عقدان يعتبرهما الكثيرون الأعنف والأكثر اضطرابًا اللذين مرا على منطقة الشرق الأوسط منذ قرن، وذلك على إثر ما يسمى بالربيع العربي، وتفجر الأوضاع في دول مثل ليبيا وتونس والسودان وسوريا ولبنان، والحروب المتعددة والمتشابكة ما بين العصابات الإرهابية وبين الحكومات الشرعية!
الإجابة هنا يمكن أن تكون أقرب إلى المقاربة منها إلى الجواب القاطع؛ فالسعوديون –عادةً– واقعيون وعمليون، وإذا ما وجدوا أن ثمة ضرورة للتغيير، فإنهم لا يمانعون في ذلك، ولكن بشكل تدريجي ومدروس، بحيث لا يمس القيم الأساسية والثوابت (مثل العقيدة، والسيادة، والاستقلال)، بل يقتصر على أدوات التنفيذ، وأولويات التحالف، ونطاق الدور الإقليمي.
إن السعوديين لم يتخلوا قط عن جذور عقيدتهم السياسية التقليدية، النابعة من أصالة بداوتهم، ونقاء إسلامهم، وصفاء عروبتهم، لكنهم أعادوا صياغتها وتطويرها بما يتناسب مع مكانة دولة تسعى إلى الريادة والقيادة في عالم لا بقاء فيه إلا للأقوى اقتصاديًا وحضاريًا وتكنولوجيًا. ومن هذا المنطلق، جاءت "رؤية 2030" التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لتشكل، جنبًا إلى جنب مع العقيدة السياسية السعودية، أداة تنفيذ متطورة لها، وليكون التطور والتقدم في الوسائل والأولويات والخطاب والنظرة إلى الذات السعودية والآخرين، وليس على حساب الجوهر والثوابت.